مدينة_الدارالبيضاء أو مصطلح القرية الكبرى
عربات مهترئة منتشرة في الشوارع والأزقة، تدفق كبير للسيارات والشاحنات يخنق معظم المحاور الرئيسة و الساحات، الأشغال العمومية تجثم على أنفاس الجميع، أصوات تعلو وتخفت هنا و هناك، شتائم وصراخ وتوسلات و لكنات بدوية قحة، سيارات أجرة تتسابق بسرعة جنونية، تريبوراتورات أعيد تشكيلها كي تنقل البشر و الخضر و كل شيء، حافلات للنقل منتهية الصلاحية و كأنها جاءت للتو من حرب طاحنة، "كرويلات" مكدسة وسط الطريق العام، عربات مجرورة بالخيول و معالم تاريخية تتعرض للاغتصاب.. و الفوضى و كأنها طاعون ينتشر في كل مكان.. مرحبا بكم بمدينة الدار البيضاء، أو عاصمة الضوضاء.
الحياة هنا لم تعد كما كانت إلى العهد القريب، بعد أن إبتلعت مظاهر البداوة معظم قيم التمدن و الحضارة التي ظلت تطبع نمط عيش السكان، بسبب الهجرة الواسعة التي توافدت على "الغول الاقتصادي" خلال السنوات الماضية، خاصة بعد تناسل ما يصطلح عليه بأحياء السكن الإقتصادي التي إلتهمت كل المناطق خارج المدار الحضاري، حتى انمحت الحدود الفاصلة بينها و بين البادية، و صارت كأنها عبارة عن "قرية كبيرة"، ظاهرة قد لا تقتصر على مدينة الدار البيضاء، و تنتشر بعدد من المدن المغربية التي تستقطب اليد العاملة، لكن انعكاساتها السلبية أصبحت خلال السنوات الاخيرة متغولة في معظم مناحي الحياة بشكل خارج عن السيطرة.
لقد ظل معظم المتعاقبين خلال العقدين الاخريين على تدبير الشأن المحلي للمدينة تحكمهم نظرة حزبية ضيقة لا تتعدى حدود المنصب، و بسبب افتقادهم لرؤية مستقبلية واضحة و سياسة إدماج حقيقية للمهاجرين، فمن طبيعي أن يتم نقل نمط الحياة بالقرى صوب المدينة و فرضه على الساكنة الأصلية، بسبب تشبت فئة عريضة من المهاجرين بالعقلية البدوية، أو ما يُعرف بـ "البداوة المقنّعة"، كنتيجة لتكثيف الهجرة القروية ونزوح الكثير من السكان القرويين صوب المدن الكبرى التي تتيح لهم فرص العمل، لكنهم لا يستطيعون الاندماج بسهولة في الوعاء العقاري للمدن الكبرى، بحيث يستقرون غالبا عند الهوامش التي تتكون فيها بؤر شبه حضرية أو قروية، أو في الأحياء الشعبية كحالة أولاد القرع بالمدينة القديمة.
معلوم أن الوافدين من القرى عادة ما يحافظون على كل قيم الحياة وطقوس البادية، بحيث لا يقتصرون على الثقافات التقليدية القروية في الأماكن التي يقطنون بها، وإنما يدخلونها إلى وسط المدينة، حتى تتلاشى الحدود الفاصلة بين نمط العيش الحضري و القروي، بمعنى أن المدينة تصبح بمثابة قرية كبيرة في النسيج الحضري للمجتمع، في ظل سوء تدبير يؤدي الى نشوء اقتصاد غير مهيكل يضمن له المنتفعون الحماية اللازمة ضد أي تيار للممانعة، حتى يغدو منظر منظر الكراول و الصناديق و الأزبال مكدسة أمام المعالم التاريخية ضمن المشاهد المعتادة لمدينة كانت مهدا للحضارة.